الضوضاء المبهجة

الضوضاء المبهجة - قصة قصيرة



الضوضاء المبهجة *قصة قصيرة **

بقيَت ساعتان على موعد السَّفرِ!

وعندما شرعْتُ أجمع أغراضي وحقيبتي، لاحظْت اختفاءها، فصحْتُ من داخل غرفتي:

  • “محدِّش شاف مفاتيحي”؟

وسريعًا ما جاءَ الرَّدُ المنتظَر:

  • “وأنت متفتكرش تدوِّر غير لما تتزنِق”؟

وقبل أن يتوتر الجوُّ، سمعْنا جرسَ البابِ. وعندما فتحْتُ، وجدْت أمامي أخي ومعه زوجتُه وابنُه، ذلك الشَّقيُّ ذو العينين الواسعتين والشَّعر النَّاعم غير المسرَّح والوجه المستدير بابتسامتِه المعهودةِ التي تخبّئُ خلفَها حماسًا كبيرًا لبداية فقرةِ لعبٍ جديدةٍ في بيتِ جدِّهِ.

وبمجرد دخولِه، تحولَتْ أمّي إلى جدّةٍ بمعايير جدّتي نفسِها التي كانت تطبقُها معي في الماضي؛ إذ راحَت تحضُنه وتضمُّه وقد ضاقت عيناها وعلَتْ وجهَها ابتسامةٌ كبيرةٌ، وبدأت تنطِق كلماتِ التِّرحابِ بشكل طفوليٍّ عفويٍّ، كما بدأَتْ بتحضيرِ سلاحِها السِّريِّ الذي تستخدمُه لجذْبِ قلوبِ الأطفالِ، ويتضمنُ العصائرَ الطَّازجة وبعضَ الفاكهةِ الصَّيفيةِ والأكَلات الخفيفة والسَّريعة التَّحضير.

بدأ هذا الشَّقي، والذي لا يكاد طولُهُ يتجاوزُ ارتفاعَ أقربِ طاولةٍ، بلعبته المفضَّلةِ، وهي الرَّكض بين الغرفِ، وإضاءة ما يستطيع إليه سبيلًا من مفاتيح النُّورِ، ناظرًا إلى النّورِ، مشيرًا  في زهو إلى “المببة”، وهي الكلمةُ الأكثرُ وضوحًا من بينِ كلماتِهِ الأخرى التي أعجز عن تفسيرِها؛ فأمُّه وحدها هي القادرة على فك شِيفرة تلك الحروفِ.

وسرعانَ ما امتلأَ البيتُ بالضَّوْضاءِ؛ فقد اختلطَ صوتُ الخلَّاط من صوْبِ المطبخِ مع أصواتِ أم الطِّفل وأمي، وأصواتِ أبي وأخي اللَّذينِ كانا يتجادلان في السِّياسة في الصَّالةِ، إضافةً إلى أصوات كركبةٍ مرتبطة بمكانِ تواجدِ الصَّغيرِ، يلحق بها صوتُ أخي فَزِعًا:

  • يا ولد!

ومن بعيدٍ أتاني صوتُ أغاني الحروفِ والأرقامِ من إحدى قنواتِ الأطفال، هذا الصّوتُ الذي أصبحَ دليلًا على وجودِهِ، اللهمَّ إلا في حالِ بثِّ المباريات والأحداث الكبرى.

واستغلّيتُ هذا الوقت لأُكملَ بحثي عن المفاتيحِ التي تستمدُّ أهميتَها من كونها النّسخةَ الوحيدةَ لغرفتي في المدينة، تلك الغرفة التى لا أظن أن هناك مَن قد يحاولُ فتحَها أو حتى مَن يعلمُ بوجودِها؛ فما هي إلا أربعة حوائطَ باهتة تحوي قطعتي أثاثٍ أو ثلاثَةً، وتسبح في صمت عميق لا يكسرُه غير صوت المنبِّه فجرًا.

ومن المطبخِ، أشتمُّ رائحةَ المخبوزاتِ المنزلية الشَّهية، والتي تعبّر عن اهتمامٍ خاصٍّ، لكنَّها لم تجهز بعد!

وأبحث عن الصَّغيرِ، فأجده يلعبُ لعبتَهُ المحبَّبَةَ المتمثلةَ في استكشافِ كلِّ ما على أيةِ منضدةٍ؛ وذلك بمسْكِه الشَّيء قليلًا ثم تركه يلاقي مصيرَه نزولًا إلى الأرض؛ فمنها ما ينجو كقلمٍ أو كتابٍ، ومنها ما يتضرّر بدرجاتٍ، مثل الهواتفِ المحمولةِ، ومنها ما يشكِّلُ خطورةً تقاربُ خطورةَ انفجارِ هيروشيما كالأكواب الزُّجاجيةِ مثلًا.

وهنا، وفي تطورٍ غير مألوف للعبتِهِ، ركض نحو الشّباكِ ممسكًا مفاتيحي التي لا أعرف كيف وصلت إليه قبل أن أجدَها أنا أو أي واحدٍ من أفرادِ البيت، وكانَ ينوي رميَها؛ فتدخَّلَ والدُه تدخُّلَ أبٍ صالح يحاول تنشئةَ ابنه، وبدأ برفع صوتِه واقفًا قبالتَه ليمنعَه، لكنَّ قواتٍ خاصَّةً تمثّلَتْ في “جدو” بحاجبيْهِ السّميكينِ وشاربِهِ الكبيرِ حضرَتْ على الفورِ، فشخصَ مهدِّدًا أخي، ومبعِدًا إيَّاه عن “حبيب جدو”، ودعَمَتْه “تيته”، محتضنةً الولد كأنها تنقذه من نيران حريقِ القاهرةِ، مقدِّمةً- من خلال حَضنِها إياهُ- شُحنة حبٍّ تكفيه أيامًا، ما جعلَ أخي يعجز، كأيِّ أبٍ في وضعِهِ، عن التَّدخل.

وبعد انتزاع مفاتيحي بسلامٍ، تحركْتُ مودِّعًا محتضِنًا الجميعَ، على أمل أن أعود قريبًا إلى هذه الضَّوضاءِ المبهجَةِ.

* القصة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة " قصص على الهواء " - مجلة العربي عدد يناير 2021.
** يمكنك الاستماع إلى القصة مع التعليق الأدبي في بودكاست مونت كارلو الدولية - برنامج "كافيه شو"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النُص الفاضى

ماتيجي نغلط في بعض